الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **
بقوله تعالى: وماخلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون قال ابن عباس وغيره يعرفون فخلق تعالى الخلق وتعرّف إليهم بألسنة الشرائع المنزلة فعرفه من عرفه سبحانه منهم على ماعرّفهم فيما تعرّف به إليهم وقد كان الناس قبل إنزال الشرائع الرسل عليهم السلام علمهم باللّه تعالى إنما هو بطريق التنزيه له عن سمات الحدوث وعن التركيب وعن الافتقار. ويصفونه سبحانه بالاقتدار المطلق وهذا التنزيه هو المشهور عقلًا ولا يتعدّاه عقل أصلًا فلما أنزل الله شريعته على رسوله محمد وأكمل دينه كان سبيل العارف باللّه أن يجمع في معرفته باللّه بين معرفتين إحداهما المعرفة التي تقتضيها الأدلة العقلية والأخرى المعرفة التي جاءت بها الاخبارات الإلهية وأن يردّ علم ذلك إلى الله تعالى ويؤمن به وبكل ما جاءت به الشريعة على الوجه الذي أراده الله تعالى من غير تأويل بفكره ولا تحكم فيه برأيه وذلك أن الشرائع إنما أنزلها الله تعالى لعدم استقلال العقول البشرية بإدراك حقائق الأشياء على ما هي عليه في علم اللّه وأنّي لها ذلك وقد تقيدت بما عندها من إطلاق ما هنالك فإن وهبها علمًا بمراده من الأوضاع الشرعية ومنحها الإطلاع على حكمه في ذلك كان من فضله تعالى فلا يُضيف العارف هذه المنة إلى فكره فإن تنزيهه لربه تعالى بفكره ويجب أن يكون مطابقًا لما أنزله سبحانه على لسان رسوله من الكتاب والسنة وإلاّ فهو تعالى منزه عن تنزيه عقول البشر بأفكارها فإنها مقيدة بأوطارها فتنزيهها كذلك مقيد بحسبها وبموجب أحكامها واَثارها إلاّ إذا خلت عن الهوى فإنها حينئذ يكشف اللّه لها الغطاء عن بصائرها ويهديها إلى الحق فتنزه اللّه تعالى عن التنزيهات العرفية بالأفكار العادية وقد أجمع المسلمون قاطبة على جواز رواية الأحاديث الواردة في الصفات ونقلها وتبليغها من غير خلاف بينهم في ذلك ثم أجمع أهل الحق منهم على أن هذه الأحاديث مصروفة عن احتمال مشابهة الخلق لقول اللّه تعالى: " واعلم أن السبب في خروج أكثر الطوائف عن ديانة الإسلام أن الفرس كانت من سعة الملك وعلوّ اليد على جميع الأمم وجلالة الخطر في أنفسها بحيث أنهم كانوا يسمون أنفسهم الأحرار والأسياد وكانوا يعدّون سائر الناس عبيدًا لهم فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب وكانت العرب عند الفرس أقل الأمم خطرًا تعاظمهم الأمروتضاعفت لديهم المصيبة وراموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى وفي كل ذلك يظهر الله تعالى الحق وكان من قائميهم سنفاد واشنيس والمقفع وبابك وغيرهم وقبل هؤلاء رام ذلك عمار الملقب خداشا وأبو مسلم السروح فرأوا أن كيده على الحيلة أنجع فأظهر قوم منهم الإسلام واستمالوا أهل التشيع بإظهار محبة أهل بيت رسول الله واستبشاع ظلم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ثم سلكوا بهم مسالك شتى حتى أخرجوهم عن طريق الهدى فقوم أدخلوهم إلى القول بأن رجلًا ينتظر يدعى المهديّ عنده حقيقة الدين إذلا يجوز أن يؤخذ الدين عن كفار إذ نسبوا أصحاب رسول اللّه إلى الكفر وقوم خرجوا إلى القول بادعاء النبوّة لقوم سموهم به وقوم سلكوا بهم إلى القول بالحلول وسقوط الشرائع وآخرون تلاعبوا بهم فأوجبوا عليهم خمسين صلاة في كل يوم وليلة وآخرون قالوا بل هي سبع عشرة صلاة في كل صلاة خمس عشرة ركعة وهوقول عبداللّه بن عمرو بن الحارث الكندي قبل أن يصير خارجيًا صفريًا وقد أظهرعبد اللّه بن سبأ الحميريّ اليهوديّ الإسلام ليكيدأهله فكان هوأصل إثارة الناس على عثمان بن عفان رضي اللّه عنه واحرق عليّ رضي الله عنه منهم طوائف أعلنوا بإلهيته ومن هذه الأصول حدثت الإسماعيلية والقرامطة. والحق الذي لاريب فيه أن دين الله تعالى ظاهر لا باطن فيه وجوهرلا سرتحته وهو كله لازم كل أحد لا مسامحة فيه ولم يكتم رسول الله من الشريعة ولاكلمة ولاأطلع أخص الناس به من زوجة أوولدعمّ على شيء من الشريعة كتمه عن الأحمر والأسود ورعاة الغنم ولا كان عنده سرّ ولا رمز ولا باطن غير ما دعا الناس كلها إليه ولو كتم شئيًا لما بلغ كما أمر ومن قال هذا فهو كافربإجماع الأمّة وأصل كلّ بدعة في الدين البعدعن كلام السلف والإنحراف عن اعتقاد الصدر الأوّل حتى بالغ القدريّ في القدر فجعل العبد خالقًا لأفعاله وبالغ الجبريّ في مقابلته فسلب عنه الفعل والاختيار وبالغ المعطل في التنزيه فسلب عن الله تعالى صفات الجلال ونعوت الكمال وبالغ المشبه في مقابلته فجعله كواحد من البشر وبالغ المرجيء في سلب العقاب وبالغ المعتزليّ في التخليد في العذاب وبالغ الناصبيّ في دفع عليّ رضي اللّه عنه عن الإمامة وبالغت الغلاة حتى جعلوه إلها وبالغ السنيّ في تقديم أبي بكررضي اللّه عنه وبالغ الرافضيّ في تأخيره حتى كفره وميدان الظنّ واسع وحكم الوهم غالب فتعارضت الظنون وكثرت الأوهام وبلغ كل فريق في الشرّ والعناد والبغي والفساد إلى أقصى غاية وأبعد نهاية وتباغضوا وتلاعنوا واستحلوا الأموال واستباحوا الدماء وانتصروا بالدول واستعانوا بالملوك فلو كان أحدهم إذا بالغ في أمر نازع الآخر في القرب منه فإن الظن لا يبعدعن الظنّ كثيرًا ولا ينتهى في المنازعة إلى الطرف الآخر من طرفي التقابل لكنهم أبو إلاّ ما قدّمنا ذكره من التدابر والتقاطع ولا يزالون مختلفين إلامن رحم ربك. المدارس قال ابن سيده: دَرَسَ الكتابَ يدرسه درسًا ودراسة ودارسه من ذلك كأنه عاوده حتى انقاد لحفظه. وقُرىء بهما وليقولوا درست ودارست ذاكرتهم وحكى درست أي قرئت وقُرِىء درَستُ ودرسَت أي هذه أخبارقدعفت وانمحت ودرستُ أشدّ مبالغة والدراس المدارسة وقال ابن جني: ودرسته إياه وأدرسته ومن الشاذ قراءة ابن حيوة وبما كنتم تدرسون والمدارس المرضع الذي يُدرس فيه وقد ذكر الواقديّ أن عبداللّه ابن أمّ مكتوم قدم مهاجرًا إلى المدينة مع مصعب بن عميررضي اللّه عنهما وقيل قدم بعدبدر بيسير فنزل دار القراء ولما أراد الخليفة المعتضد بالله أبو العباس أحمد بن الموفق باللّه أبي أحمد طلحة بن المتوكل على الله جعفر بناء قصره في الشماسية ببغداد استزاد في الذرع بعد أن فرغ من تقديرما آراد فسُئل عن ذلك فذكر أنه يريده ليبني فيه دورًا ومساكن ومقاصير يرتب في كل موضع رؤساء كلّ صناعة ومذهب من مذاهب العلوم النظرية والعملية ويجري عليهم الأرزاق السنية ليقصد كل من اختار علمًا أو صناعة رئيس ما يختاره فيأخذ عنه. والمدارس مما حدث في الإسلام ولم تكن تُعرف في زمن الصحابة ولا التابعين وإنما حدث عملها بعد الأربعمائة من سني الهجرة وأوّل من حفظ عنه أنه بنى مدرسة في الإسلام أهل نيسابور فبنيت بها بالمدرسة البيهقية وبنى بها أيضًا الأمير نصر بن سبكتكين مدرسة وبنى بها أخو السلطان محمود بن سبكتكين مدرسة وبنى بها أيضًا المدرسة السعيدية وبنى بها أيضًا مدرسة رابعة وأشهرما بني في القديم المدرسة النظامية ببغداد لأنها أوّل مدرسة قرّر بها للفقهاء معاليم وهي منسوبة إلى الوزير نظام الملك أبي عليّ الحسن بن عليّ بن إسحاق بن العباس الطوسيّ وزير ملك شاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكال بن سلجوق في مدينة بغداد وشرع في بنائها في سنة سبع وخمسين وأربعمائة وفرغت في ذي القعدة سنة تسع وخمسين وأربعمائة ودرس فيها الشيخ أبو إسحاق الشيرازيّ الفيروزأبادي صاحب كتاب التنبيه في الفقه على مذهب الإمام الشافعيّ رضي اللّه عنه ورحمه فاقتدى الناس به من حينئذ في بلاد العراق وخراسان وما وراء النهر وفي بلاد الجزيرة وديار بكر. وأمّا مصر فإنها كانت حينئذ بيد الخلفاء الفاطميين ومذهبهم مخالف لهذه الطريقة وإنما هم شيعة إسماعيلية كما تقدّم وأول ما عرف إقامة درس من قبل السلطان بمعلوم جار لطائفة من الناس بديارمصر في خلافة العزيز باللّه نزار بن المعز ووزارة يعقوب بن كلس فعُمل ذلك بالجامع الأزهر كما تقدّم ذكره ثم عمل في دار الوزير يعقوب بن كاس مجلس يحضره الفقهاء فكان يقرأ فيه كتاب فقه على مذهبهم وعُمل أيضًا مجلس بجامع عمرو بن العاص من مدينة فسطاط مصر لقراءة كتاب الوزير ثم بنى الحاكم بأمر الله أبو عليّ منصور بن العزيز دار العلم بالقاهرة كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب فلما انقرضت الدولة الفاطمية على يد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أبطل مذاهب الشيعة من ديار مصر وأقام بها مذهب الإمام الشافعيّ ومذهب الإمام مالك واقتدى بالملك العادل نور الدين محمود بن زنكي فإنه بنى بدمشق وحلب وأعمالهما عدّة مدارس للشافعية والحنفية وبنى لكل من الطائفتين مدرسة بمدينة مصر. وأوّل مدرسة أحدثت بديار مصر المدرسة الناصرية بجوار الجامع العتيق بمصر ثم المدرسة القمحية المجاورة للجامع أيضًا ثم المدرسة السيوفية التي بالقاهرة ثم اقتدى بالسلطان صلاح الدين في بناء المدارس بالقاهرة ومصر وغيرهما من أعمال مصر وبالبلاد الشامية والجزيرة أولاده وأمراؤه ثم حذا حذوهم من ملك مصر بعدهم من ملوك الترك وأمرائهم وأتباعهم إلى يومنا هذا وسأذكر ما بديار مصر من المدارس وأعرّف بحال من بناها على ما اعتدته في هذا الكتاب من التوسط دون الإسهاب وباللّه إستعين. المدرسة الناصرية بجوار الجامع العتيق من مدينة مصر من قبليه هذه المدرسة عُرفت أوّلًا بالمدرسة الناصرية ثم عُرفت بابن زين التجار وهو أبو العباس أحمد بن المظفر بن الحسين الدمشقي المعروف بابن زين التجار أحد أعيان الشافعية. درّس بهذه المدرسة مدة طويلة ومات في ذي القعدة سنة إحدى وتسعين وخمسمائة ثم عُرفت بالمدرسة الشريفة وهي إلى الآن تُعرف بذلك وكان موضعها يُقال له الشرطة وذكر الكنديّ أنها خطة قيس بن سعد بن عبادة الأنصاريّ وعُرفت بدار الفلفل. وقال ابن عبد الحكم كانت فضاء قبل ذلك وقيل كانت هي والدار التي إلى جانبها لنافع بن عبد الله بن قيس الفهريّ فأخذها منه قيس بن سعد وسُمِّيت دار الفلفل لأن أسامة بن زيد التنوخيّ صاحب الخراج بمصر ابتاع من موسى بن وردان فلفلا بعشرين ألف دينار ليهديه إلى صاحب الروم فخزنه فيها ولما فرغ عيسى بن يزيد الجلوديّ من بناء زيادة الجامع بنى هذه الدار شرطة في سنة ثلاث عشرة ومائتين ثم صارت سجنًا تُعرف بالمعونة فهدمها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب في أوّل المحرّم سنة ست وستين وخمسمائة وأنشأها مدرسة برسم الفقهاء الشافعية وكان حينئذ يتولى وزارة مصر للخليفة العاضد وكان هذا من أعظم ما نزل بالدولة وهي أوّل مدرسة عُملت بديار مصر ولما كملت وقف عليها الصاغة وكانت بجوارها وقد خربت وبقي منها شيء يسير قرأت عليها اسم الخليفة العزيز بالله ووقف عليها أيضًا قرية تعرف وأول من ولي التدريس بها ابن زين التجار فعرفت به ثم درس بها بعدد ابن قطيطة بن الوزان ثم من بعده كمال الدين أحمد بن شيخ الشيوخ وبعده الشريف القاضي شمس الدين أبو عبد اللّه محمد بن الحسين بن محمد الحنفيّ قاضي العسكر الأرموي فعرفت به. وقيل لها المدرسة الشريفة من عهده إلى اليوم ولولا ما يتناوله الفقهاء من المعلوم بها لخربت فإن الكيمان ملاصقة لها بعدما كان حولها أعمر موضع في الدنيا وقد ذكر حبس المعونة عند ذكر السجون من هذا الكتاب. المدرسة القمحية هذه المدرسة بجوار الجامع العتيق بمصر كان موضعها يُعرف بدار الغزل وهو قيسارية يباع فيها الغزل فعدمها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وأنشأ موضعها مدرسة للفقهاء المالكية وكان الشروع فيها للنصف من المحرّم سنة ست وستين وخمسمائة ووقف عليها قيسارية الورّاقين وعلوها بمصر وضيعة بالفيوم تعرف بالحنبوشية ورتب فيها أربعة من المدرّسين عند كل مدرّس عدّة من الطلبة وهذه المدرسة أجل مدرسة للفقهاء المالكية ويتحصل لهم من ضيعتهم التي بالفيوم قمح يفرّق فيهم فلذلك صارت لا تُعرف إلاّ بالمدرسة القمحية إلى اليوم وقد أحاط بها الخراب ولولاما يُتحصل منها للفقهاء لدثرت. وفي شعبان سنةخمس وعشرين وثمانمائة أخرج السلطان الملك الأشرف برسباي الدقماقيّ ناحيتي الإعلام والحنبوشية وكانتا من وقف السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب على هذه المدرسة وأنعم بهما على مملوكين من مماليكه ليكونا إقطاعًا لهما. مدرسة يازكوج هذه المدرسة بسوق الغزل في مدينة مصر وهي مدرسة معلقة بناها. هذه المدرسة كانت بالبزازين التي تجاور خط النخالين بمصر عُرفت بابن الأرسوفيّ التاجر العسقلانيّ وكان بناؤها في سنة سبعين وخمسمائة وهو عفيف الدين عبد الله بن محمد الأرسوفيّ مات بمصر في يوم الإثنين حادي عشري ربيع الأوّل سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة. مدرسة منازل العز هذه المدرسة كانت من دور الخلفاء الفاطميين بنتها أمّ الخليفة العزيز بالله بن المعز وعُرفت بمنازل العز وكانت تشرف على النيل وصارت معدة لنزهة الخلفاء وممن سكنها ناصر الدولة حسين بن حمدان إلى أن قُتل وكان بجانبها حمّام يعرف بحمّام الذهب من جملة حقوقها وهي باقية. فلما زالت الدولة الفاطمية على يد السلطان صلاح الدين يوسف أنزل في منازل العز الملك المظفرتقيّ الدين عمربن شاهنشاه بن أيوب فسكنها مدة ثم إنه اشتراها والحمام والإصطبل المجاور لها من بيت المال في شهر شعبان سنة ست وستين وخمسمائة وأنشأ فندقين بمصر بخط الملاحين وأنشأ ربعًا بجوار أحد الفندقين واشترى جزيرة مصر التي تعرف اليوم بالروضة فلما أراد أن يخرج من مصرإلى الشام وقف منازل العز على فقهاء الشافعية ووقف عليها الحمّام وما حولها وعمر الإصطبل فندقًا عُرف بفندق النخلة ووقفه عليها ووقف عليها الروضة ودرّس بها شهاب الدين الطوسيّ وقاضي القضاة عماد الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد العليّ السكريّ وعدّة من الأعيان. وهي الآن عامرة بعمارة ما حولها. الملك المظفر تقيّ الدين أبو سعيد عمربن نور الدولة شاهنشاه بن نجم الدين أيوب بن شادي بن مروان وهو ابن أخي السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب قدم إلى القاهرة في واستنابه السلطان على دمشق في المحرّم سنة إحدى وسبعين ثم نقله إلى نيابة حماه وسلم إليه سنجار لما أخذها في ثاني رمضان سنة ثمان وسبعين فأقام بها ولحق السلطان على حلب فقدم عليه في سابع صفر سنة تسع وسبعين فأقام إلى أن بعثه إلى القاهرة نائبًاعنه بديار مصر عوضًا عن الملك العادل أبي بكر بن أيوب فقدمها في شهر رمضان سنة تسع وسبعين وأنعم عليه بالفيوم وأعمالها مع القايات وبوش وأبقى عليه مدينة حماه. ثم خرج بعساكر مصر إلى السلطان وهو بدمشق في سنة ثمانين لأجل أخذ الكرك من الفرنج فسار إليها وحصرها مدّة ثم رجع مع السلطان إلى دمشق وعاد إلى القاهرة في شعبان وقد أقام السلطان على مملكة مصر ابنه الملك العزيز عثمان وجعل الملك المظفر كافلًا له وقائمًا بتدبير دولته فلم يزل على ذلك إلى جمادى الأولى سنة اثنتين وثمانين فصرف السلطان أخاه الملك العادل عن حلب وأعطاه نيابة مصر فغضب الملك المظفر وعبر بأصحابه إلى الجيزة يريد المسير إلى بلاد المغرب واللحاق بغلامه بهاء الدين قراقوش التقويّ فبلغ السلطان ذلك فكتب إليه ولم يزل به حتى زال ما به وسار إلى السلطان فقدم عليه دمشق في ثالث عشري شعبان فأقرّه على حماه والمعرّة ومنبج وأضاف إليه ميا فارقين فلحق به أصحابه ما خلا مملوكه زين الدين بوزيا فإنه سار إلى بلاد المغرب وكانت له في أرض مصر وبلاد الشام أخبار وقصص وغرفت له مواقف عديدة في الحرب مع الفرنج وآثار في المصافات وله في أبواب البرّ أفعال حسنة وله بمدينة الفيوم مدرستان إحداهما للشافعية والأخرى للمالكية وبنى مدرسة بمدينة الرها وسمع الحديث من السلفيّ وابن عوف وكان عنده فضل وأدب وله شعر حسن وكان جوادًا شجاعًا مقدامًا شديد البأس عظيم الهمة كثير الإحسان ومات في نواحي خلاط ليلة الجمعة تاسع شهر رمضان سنة سبع وثمانين وخمسمائة ونقل إلى حماه فدفن بها في تربة بناها على قبره ابنه الملك المنصور محمد.
هذه المدرسة بخط الساحل بجوار الربع العادلي من مدينة مصر الذي وقف على الشافعيّ عمرها الملك العادل أبو بكر بن أيوب أخو السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب درس بها قاضي القضاة تقيّ الدين أبو عليّ الحسين بن شرف الدين أبي الفضل عبد الرحيم بن الفقيه جلال الدين أبي محمد عبد اللّه بن نجم بن شاس بن نزار بن عشائر بن عبد الله بن محمد بن شاس. فعرفت به وقيل لها مدرسة ابن شاس إلى اليوم وهي عامرة وعُرف خطها بالقشاشين وهي للمالكية. مدرسة ابن رشيق هذه المدرسة للمالكية وهي بخط حمّام الريش من مدينة مصر كان الكاتم من طوائف التكرور لما وصلوا إلى مصر في سنة بضع وأربعين وستمائة قاصدين الحج دفعوا للقاضي علم الدين بن رشيق مالًا بناها به ودرّس بها فعرفت به وصار لها في بلاد التكرور سمعة عظيمة وكانوا يبعثون إليها في غالب السنين المال. المدرسة الفائزية هذه المدرسة في مصر بخط أنشأها الصاحب شرف الدين هبة اللّه بن صاعد بن وهيب الفائزيّ قبل وزارته في سنة ست وثلاثين وستمائة ودرّس بها القاضي محيي الدين عبد الله بن قاضي القضاة شرف الدين محمد بن عين الدولة ثم قاضي القضاة صدر الدين موهوب الجزريّ وهي للشافعية. المدرسة القطبية هذه المدرسة بالقاهرة في خط سويقة الصاحب بداخل درب الحريريّ كانت هي والمدرسة السيفية من حقوق دار الديباج التي تقدّم ذكرها وأنشأ هذه المدرسة الأمير قطب الدين خسرو بن بلبل بن شجاع الهدبانيّ في سنة سبعين وخمسمائة وجعلها وقفًا على الفقهاء الشافعية وهو أحد أمراء السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب. المدرسة السيوفية هذه المدرسة بالقاهرة وهي من جملة دار الوزير المأمون البطائجيّ وقفهاالسلطان السيد الأجل الملك الناصر صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب على الحنفية وقرّر في تدريسها الشيخ مجد الدين محمد بن محمد الجبتي ورتب له في كل شهر أحد عشر دينارًا وباقي ريع الوقف يصرفه على ما يراه لطلبة الحنفية المقرّرين عنده على قدر طبقاتهم وجعل النظر للجبتي ومن بعده إلى من له النظر في أمور المسلمين وعُرفت بالمدرسة السيوفية من أجل أن سوق السيوفيين كان حينئذ على بابها وهي الآن تجاه سوق الصنادقيين وقدوهم القاضي محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر فإنه قال في كتاب الروضة الزاهرة في خطط المعزية القاهرة: مدرسة السيوفية وهي للحنفية وقفها عز الدين فرحشاه قريب صلاح الدين وماأدري كيف وقع له هذا الوهم فإن كتاب وقفها موجود قد وَقَفْتُ عليه ولخَصتُ منه ما ذكرته وفيه أن واقفها السلطان صلاح الدين وخطه على كتاب الوقف ونصه: الحمد للّه وبه توفيقي وتاريخ هذا الكتاب تاسع عشرى شعبان سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة ووقف على مستحقيها اثنين وثلاثين حانوتًا بخط سويقة أمير الجيوش وباب الفتوح وحارة برجوان وذكر في آخر كتاب وقفها أن الواقف أذن لمن حضر مجلسه من العدول في الشهادة والقضاء على لفظه بما تضمنه المسطور فشهدوا بذلك وأثبتوا شهادتهم آخره وحكم حاكم المسلمين على صحة هذا الوقف بعدما خاصم رجل من أهل هذا الوقف في ذلك وأمضاه. لكنه لم يذكر في الكاتب اسجال القاضي بثبوته بل ذكر رسم شهادة الشهودعلى الواقف وهم عليّ بن إبراهيم بن نجابن غنائم الأنصاريّ الدمشقيّ والقاسم بن يحيى بن عبد اللّه بن قاسم الشهرزوريّ وعبد الله بن عمر بن عبد الله الشافعيّ وعبد الرحمن بن عليّ بن عبد العزيز بن قريش المخزوميّ وموسى بن حكر بن موسك الهدبانيّ في آخرين. وهذه المدرسة هي أوّل مدرسة وقفت على الحنفية بديار مصر وهي باقية بأيديهم. المدرسة الفاضلية هذه المدرسة بحرب ملوخيا من القاهرة بناها القاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ البيسانيّ بجوار داره في سنة ثمانين وخمسمائة ووقفها على طائفتي الفقهاء الشافعية والمالكية وجعل فيها قاعة للإقراء أقرأ فيها الإمام أبومحمد الشاطبيّ ناظم الشاطبية ثم تلميذه أبو عبد الله محمد بن عمر القرطبيّ ثم الشيخ عليّ بن موسى الدهان وغيرهم ورتب لتدريس فقه المذهبين الفقيه أبا القاسم عبد الرحمن بن سلامة الإسكندرانيّ ووقف بهذه المدرسة جملة عظيمة من الكتب في سائر العلوم يُقال أنها كانت مائة ألف مجلد وذهبت كلها. وكان أصل ذهابها أن الطلبة التي كانت بها لما وقع الغلاء بمصر في سنة أربع وتسعين وستمائة والسلطان يومئذ الملك العادل كتبغا المنصوريّ مسهم الضر فصاروا يبيعون كلّ مجلد برغيف خبز حتى ذهب معظم ما كان فيها من الكتب ثم تداولت أيدي الفقهاء عليها بالعارية فتفرّقت وبها إلى الاَن مصحف قرآن كبير القدرجدًّا مكتوب بالخط الأوّل الذي يُعرف بالكوفيّ تسميه الناس مصحف عثمان بن عفان ويقال أن القافي الفاضل اشتراه بنيف وثلاثين ألف دينار على أنه مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي اللّه عنه وهو في خزانة مفردة له بجانب المحراب من غريبه وعليه مهابة وجلالة وإلى جانب المدرسة كُتّاب برسم الأيتام وكانت هذه المدرسة من أعظم مدارس القاهرة وأجلها وقد تلاشت لخراب ما حولها. عبدالرحيم: بن عليّ بن الحسن بن أحمدبن الفرج بن أحمد القاضي الفاضل محيي الدين أبو عليّ ابن القاضي الأشرف اللخميّ العسقلانيّ البيسانيّ المصريّ الشافعيّ كان أبوه يتقلد قضاء مدينة بيسان فلهذا نسبوا إليها وكانت ولادته بمدينة عسقلان في خامس عشر جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وخمسمائة ثم قدم القاهرة وخدم الموفق يوسف بن محمد بن الجلال صاحب ديوان الإنشاء في أيام الحافظ لدين اللّه وعنه أخذ صناعة الإنشاء ثم خدم بالإسكندرية مدّة فلما قام بوزارة مصر العادل رزيك بن الصالح طلائع بن رزيك خرج أمره إلى والي الإسكندرية بتسييره إلى الباب فلما حضر استخدمه بحضرته وبين يديه في ديوان الجيش فلما مات الموفق بن الجلال في سنة ست وستين وخمسمائة وكان القاضي الفاضل ينوب عنه في ديوان الإنشاء عينه الكامل بن شاور وسعى له عند أبيه الوزير شاور بن مجير فأقرّه عوضًا عن ابن الجلال في ديوان الإنشاء فلما ملك أسد الدين شيركوه احتاج إلى كاتب فأحضره وأعجبه اتقائه وسمته ونصحه فاستكتبه إلى أن ملك صلاح الدين يوسف بن أيوب فاستخلصه وحسن اعتقاده فيه فاستعان به على ما أراد من إزالة الدولة الفاطمية حتى تم مراده فجعله وزيره ومشيره بحيث كان لا يصدر أمرًا إلا عن مشورته ولا ينفذ شيئًا إلا عن رأيه ولا يحكم في فضية إلا بتدبيره فلما مات صلاح الدين استمرّ على ما كان عليه عند ولده الملك العزيز عثمان في المكانة والرفعة وتقلد الأمر فلمامات العزيز وقام من بعده ابنه الملك المنصور بالملك ودبر أمره عمه الأفضل كان معهما على حاله إلى أن وصل الملك العادل أبو بكر بن أيوب من الشام لأخذ ديار مصر وخرج الأفضل لقتاله فمات منكوبًا أحوج ما كان إلى الموت عند تولى الإقبال وإقبال الإدبار في سحر يوم الأربعاء سابع عشر ربيع الاَخر سنة ست وتسعين وخمسمائة ودفن بتربته من القرافة الصغرى. قال ابن خلكان وزر للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وتمكن منه غاية التمكن وبرز في صناعة الإنشاء وفاق المتقدّمين وله فيه الغرائب مع الإكثار. أخبرني أحد الفضلاء الثقات المطلعين على حقيقة أمره إ نّ مسودّات رسائله في المجلدات والتعليقات في الأوراق إذا جمعت ما تقصر عن مائة وهو مجيد في أكثرها. وقال عبد اللطيف البغداديّ: دخلنا عليه فرأيت شيخًا ضئيلًا كله رأس وقلب وهو يكتب ويملى على اثنين ووجهه وشفتاه تلعب ألوان الحركات لقوّة حرصه في إخراج الكلام وكأنه يكتب بجملة أعضائه وكان لغرام في الكتابة وتحصيل الكتب وكان له الدين والعفاف والتقى والمواظبة على أوراد الليل والصيام وقراءة القرآن وكان قليل اللذات كثير الحسنات دائم التهجد ويشتغل بعلوم الأدب وتفسير القرآن غير أنه كان خفيف البضاعة من النحو ولكن قوّة الدراية توجب له قلة اللحن وكان لا يكاد يضيع من زمانه شيئًا إلا في طاعة وكتب في الإنشاء ما لم يكتبه غيره وحكى لي ابن القطان أحد كتابه قال: لما خطب صلاح الدين بمصر للإمام المستضيء بأمر اللّه تقدّم إلى القاضي الفاضل بأن يكاتب الديوان العزيز وملوك الشرق ولم يكن يعرف خطابهم واصطلاحهم فأوغر إلى العماد الكاتب أن يكتب فكتب واحتفل وجاء بها مفضوضة ليقرأها الفاضل متبجحًا بها فقال: لا أحتاج أن أقف عليها وأمر بختمها وتسليمها إلى النجاب والعماد يبصر. قال: ثم أمرني أن ألحق النجاب ببلبيس وأن أفض الكتب وأكتب صدورها ونهايتها ففعلت ورجعت بها إليه فكتب على حذوها وعرضها على السلطان فارتضاها وأمر بإرسالها إلى أربابها مع النجاب وكان متقللًا في مطعمه ومنكحه وملبسه ولباسه البياض لا يبلغ جميع ما عليه دينارين ويركب معه غلام وركابيّ ولا يمكن أحدًا أن يصحبه ويكثر زيارة القبور وتشييع الجنائز وعيادة المرضى وله معروف في السرّ والعلانية وأكثر أوقاته يفطر بعدما يتهوّر الليل وكان ضعيف البنية رقيق الصورة له حدبة يغطيها الطيلسان وكان فيه سوء خلق يكمد به في نفسه ولا يضرّ أحدًا به ولأصحاب الأدب عنده نفاق يحسن إليهم ولا يمن عليهم ويؤثر أرباب البيوت والغرباء ولم يكن له انتقام من أعدائه إلا بالإحسان إليهم أو بالإعراض عنهم وكان دخله في كلّ سنة من إقطاع ورباع وضياع خمسين ألف دينار سوى متاجره للهند والمغرب وغيرهما وكان يقتني الكتب من كل فنّ ويجتلبها من كل جهة وله نساخ لا يفترون ومجلدون لا يبطلون. قال لي بعض من يخدمه في الكتب: أن عددها قد بلغ مائة ألف وأربعة وعشرين ألفًا وهذا قبل موته بعشرين سنة. وحكى لي ابن صورة الكتبيّ: أن ابنه القاضي الأشرف التمس مني أن أطلب له نسخة الحماسة ليقرأها فأعلمت القاضي الفاضل فاستحضر من الخادم الحماسات فأحضر له خمسًا وثلاثين نسخة وصار ينفض نسخة نسخة ويقول: هذه بخط فلان وهذه عليها خط فلان حتى أتى على الجميع وقال: ليس فيها ما يصلُحُ للصبيان وأمرني أن أشتري له نسخة بدينار. المدرسة الأزكشية هذه المدرسة بالقاهرة على رأس السوق الذي كان يعرف بالخروقيين ويُعرف اليوم بسويقة أمير الجيوش بناها الأمير سيف الدين أيازكوج الأسديّ مملوك أسد الدين شيركوه وأحد أمراء السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وجعلها وقفًا على الفقهاء من الحنفية فقط في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة وكان أيازكوج رأس الأمراء الأسدية بديار مصر في أيام السلطان صلاح الدين وأيام ابنه الملك العزيز عثمان وكان الأمير فخر الدين جهاركس رأس الصلاحية ولم يزل على ذلك إلى أن مات في يوم الجمعة ثامن عشر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وخمسمائة ودفن بسفح المقطم بالقرب من رباط الأمير فخر الدين بن قزل. المدرسة الفخرية هذه المدرسة بالقاهرة فيما بين سويقة الصاحب ودرب العدّاس عمرها الأمير الكبيرفخر الدين أبو الفتح عثمان بن قزل البارومي أستادار الملك الكامل محمد بن العادل وكان الفراغ منها في سنة اثنتين وعشرين وستمائة وكان موضعها أخيرًا يُعرف بدار الأمير حسام الدين ساروح بن أرتق شاد الدواوين ومولد الأمير فخر الدين في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة بحلب وتنقل في الخدم حتى صار أحد الأمراء بديار مصر وتقدّم في أيام الملك الكامل وصار أستاداره وإليه أمر المملكة وتدبيرها إلى أن سافر السلطان من القاهرة يريد بلاد المشرق فمات بحزان بعد مرض طويل في ثامن عشر ذي الحجة سنة تسع وعشرين وستمائة وكان خيرًا كثيرالصدقة يتفقد أرباب البيوت وله من الآثار سوى هذه المدرسة المسجد الذي تجاهها وله أيضًا رباط المدرسة السيفية هذه المدرسة بالقاهرة فيما بين خط البندقانيين وخط الملحيين وموضعها من جملةدار الديباج قال ابن عبد الظاهر كانت دارًا وهي من المدرسة القطبية فسكنها شيخ الشيوخ يعني صدر الدين محمد بن حموية وبُنيت في وزارة صفي الدين عبداللّه بن عليّ بن شكران سيف الإسلام ووقفها وولى فيها عماد الدين ولد القاضي صدر الدين يعني ابن درباس وسيف الإسلام هذا اسمه طفتكين بن أيوب. طفتكين: ظهير الدين سيف الإسلام الملك المعز بن نجم الدين أيوب بن شادي بن مروان الأيوبيّ سيره أخوه صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى بلاد اليمن في سنة سبع وسبعين وخمسمائة فملكها واستولى على كثير من بلادها وكان شجاعًا كريمًا مشكور السيرة حسن السياسة قصده الناس من البلاد الشاسعة يستمطرون إحسانه وبرّه وسار إليه شرف الدين بن عنين ومدحه بعدّة قصائد بديعة فأجزل صِلاته وأكثر من الإحسان إليه واكتسب من جهته مالًا وافرًا وخرج من اليمن فلما قدم إلى مصر والسلطان إذ ذاك الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين ألزمه أرباب ديوان الزكاة بدفع زكاة ما معه من المتجر فعمل: بين العزيزينِ فرقٌ في فعالِهِما هذّاكَ يُعطي وهذا يأخُذُ الصَدَقَهْ. وتوفي سيف الإسلام في شوّال سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة بالمنصورة وهي مدينة باليمن اختطها رحمه اللّه تعالى. المدرسة العاشورية هذه المدرسة بحارة زويلة من القاهرة بالقرب من المدرسة القطبية الجديدة ورحبة كوكاي. قال ابن عبد الظاهر: كانت دار اليهوديّ ابن جميع الطبيب وكان يكتب لقراقوش فاشترتها منه الست عاشوراء بنت ساروح الأسديّ زوجة الأمير أيازكوج الأسديّ ووقفتها على الحنفية وكانت من الدور الحسنة وقد تلاشت هذه المدرسة وصارت طول الأيام مغلوقة لا تُفتح إلاّ قليلًا فإنها في زقاق لا يسكنه إلاّ اليهود ومن يقرب منهم في النسب. المدرسة القطبية هذه المدرسة في أوّل حارة زويلة برحبة كوكاي عُرفت بالست الجليلة الكبرى عصمة الدين مؤنسة خاتون المعروفة بدار إقبال العلائي ابنة الملك العادل أبي بكر بن أيوب وشقيقة الملك الأفضل قطب الدين أحمد وإليه نُسبت وكانت ولادتها في سنة ثلاث وستمائة ووفاتها ليلة الرابع والعشرين من ربيع الاَخر سنة ثلاث وتسعين وستمائة وكانت قد سمعت الحديث وخرّج لها الحافظ أبو العباس أحمد بن محمد الظاهريّ أحاديث ثمانيات حدّثت بها وكانت عاقلة دينة فصيحة لها أدب وصدقات كثيرة وتركت مالًا جزيلًا وأوصت ببناء مدرسة يُجعل فيها فقهاء وقرّاء ويُشترى لها وقف يغلّ فبنيت هذه المدرسة وجُعل فيها درس للشافعية ودرس للحنفية. وقرّاء وهي إلى اليوم عامرة. المدرسة الخرّوبية هذه المدرسة على شاطيء النيل من مدينة مصر أنشأها تاج الدين محمد بن صلاح الدين أحمد بن محمد بن علي الخروبيّ لما أنشأ بيتًا كبيرًا مقابل بيت أخيه عز الدين قبليه على شاطىء النيل وجعل فيه هذه المدرسة وهي ألطف من مدرسة أخيه وبجنبها مكتب سبيل ووقف عليها أوقافًا وجعل بها مدرِّسُ حديثٍ فقط مات بمكة في آخر المحرّم سنة خمس وثمانين وسبعمائة. مدرسة المحليّ هذه المدرسة على شاطىء النيل داخل صناعة التمر ظاهر مدينة مصر أنشأها رئيس التجار برهان الدين إبراهيم بن عمر بن عليّ المحليّ ابن بنت العلامة شمس الدين محمد بن اللبان وينتمي في نسبه إلى طلحة بن عبيد الله أحد العشرة رضي اللّه عنهم وجعل هذه المدرسة بجوار داره التي عمرها في مدّة سبع سنين وأنفق في بنائها زيادة على خمسين ألف دينار وجعل بجوارها مكتب سبيل لكن لم يجعل بها مدرّسًا ولا طلبة وتوفي ثاني عشري ربيع الأوّل سنة ست وثمانمائة عن مال عظيم أخذ منه السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق مائة ألف دينار وكان مولده سنة خمس وأربعين وسبعمائة ولم يكن مشكور السيرة في الديانة وله من المآثر تجديد جامع عمرو بن العاص فإنه كان قد تداعى إلى السقوط فقام بعمارته حتى عاد قريبًا مما كان عليه شكر الله له ذلك. المدرسة الفارقانية هذه المدرسة بابها شارع في سويقة حارة الوزيرية من القاهرة فُتحت في يوم الإثنين رابع جمادى الأولى سنة ست وسبعين وستمائة وبها درس للطائفة الشافعية ودرس للطائفة الحنفية أنشأها الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقانيّ السلاحدار كان مملوكًا للأمير نجم الدين أميرحاجب ثم انتقل إلى الملك الظاهر بيبرس فترقّى عنده في الخدم حتى صار أحد الأمراء الأكابر وولاه الأستادارية وناب عنه بديار مصرمدة غيبته وقدّمه على العساكر غير مرّة وفتح له بلاد النوبة وكان وسيمًا جسيمًا شجاعًا مقدامًا حازمًا صاحب دراية بالأمور وخبرة بالأحوال والتصرّفات مدبرًا للدول كثير البرّ والصدقة ولما مات الملك الظاهر وقام من بعده في ملك مصر ابنه الملك السعيد بركة قان ولاّه نيابة السلطنة بديار مصر بعد موت الأمير بدرالدين بيلبك الخازندار فأظهر الحزم وضم إليه طائفة منهم شمس الدين أقوش وقطليجا الروميّ وسيف الدين قليج البغداديّ وسيف الدين بيجوالبغداديّ وسيف الدين شعبان أميرشكار وبكتمر السلاحدار وكانت الخاصكية تكرهه فاتفقوا مع مماليك بيلبك الخازندار على القبض عليه وتحدّثوا مع الملك السعيد في ذلك وما زالوا به حتى قبضوا عليه بمساعدة الأمير سيف الدين كوندك الساقي لهم وكان قد ربي مع السعيد في المكتب فلم يشعروهو قاعد بباب القلة من القلعة إلاّ وقد سحب وضرب ونتفت لحيته وجُرّ وقد ارتكب في إهانته أمر شنيع إلى البرج فسجن به ليالي قليلة أخرج منه ميتًا في أثناء سنة ست وسبعين وستمائة وجُهِلَ قبره. المدرسة المهذبية هذه المدرسة خارج باب زويلة من خط حارة حلب بجوار حمّام قماري بناهاالحكيم مهذب الدين أبو سعيد محمد بن علم الدين بن أبي الوحش بن أبي الخير بن أبي سليمان بن أبي حليقة رئيس الأطباء كان جده الرشيد أبو الوحش نصرانيًا متقدّمًا في صناعة الطب فأسلم ابنه علم الدين في حياته وكان لا يولد له ولد فيعيش فرأت أمه وهي حامل به قائلًا يقول: هيئوا له حلقة فضة قد تصدّق بوزنها وساعة يوضع من بطن أمّه تثقب أذنه وتوضع فيها الحلقة. ففعلت ذلك فعاش فعاهدت أمّه أباه أن لا يقلعها من أذنه فكبر وجاءته أولاد وكلهم يموت فولد له ابنه مهذب الدين أبو سعيد فعمل له حلقة فعاش وكان سبب اشتهاره بأبي حليقة أن الملك الكامل محمد بن العادل أمر بعض خدّامه أن يستدعي بالرشيد الطبيب من الباب وكان جماعة من الأطباء بالباب فقال الخادم من هو منهم فقال السلطان أبو حليقة فخرج فاستدعاه بذلك فاشتهر بهذا الإسم ومات الرشيد في سنة ست وسبعين وستمائة. المدرسة الخروبية هذه المدرسة بظاهر مدينة مصر تجاه المقياس بخط كرسيّ الجسر أنشأها كبير الخراربية بدر الدين محمد بن محمد بن عليّ الخروبيّ بفتح الخاء المعجمة وتشديد الراء المهملة وضمها ثم واو ساكنة بعدها باء موحدة ثم ياء آخر الحروف التاجر في مطابخ السكر وفي غيرها بعد سنة خمسين وسبعمائة وجعل مدرّس الفقه بها الشيخ بهاء الدين عبد اللّه بن عبد الرحمن بن عقيل والمعيد الشيخ سراج الدين عمر البلقيني ومات سنة اثنتين وستين وسبعمائة وأنشأ أيضًا ربعين بخط دار النحاس من مصر على شاطىء النيل وربعين مقابل المقياس بالقرب من مدرسته ولبدرالدين هذا أخ من أبيه أسنّ منه يقال له صلاح الدين أحمد بن محمد بن عليّ الخروبيّ عاش بعد أخيه وأنجب في أولاده وأدرَكتُ لهم أولادًا نجباء وكان أوّلًا قليل المال ثم تموّل وأنشأ تربة كبيرة بالقرافة فيما بين تربة الإمام الشافعي وتربة الليث بن سعد مقابل السروتين وجدّدها حفيده نور الدين عليّ بن عز الدين محمد بن صلاح الدين وأضاف إليها مطهرة حسنة ومات سنة تسع وستين وسبعمائة وشرط بدر الدين في مدرسته أن لا يلي بها أحد من العجم. وظيفة من الوظائف. فقال في كل وظيفة منها ويكون من العرب دون العجم وكانت له مكارم جهز مرّة ابن عقيل إلى الحج بنحو خمسمائة دينار. المدرسة الخروبية هذه المدرسة بخط الشون قبليّ دار النحاس من ظاهر مدينة مصر أنشأها عز الدين محمد بن صلاح الدين أحمد بن محمد بن عليّ الخزوبيّ وهي أكبر من مدرسة عمه بدر الدين إلاّ أنه مات سنة ست وسبعين وسبعمائة قبل استيفاء ما أراد أن يجعل فيها فليس لها مدرّس ولا طلبة ومولده سنة ست عشرة وسبعمائة ونشأ في دنيا عريضة رحمه اللّه تعالى. المدرسة الصاحبية البهائية هذه المدرسة كانت بزقاق القناديل من مدينة مصر قرب الجامع العتيق أنشأهاالوزير الصاحب بهاء الدين عليّ بن محمد بن سليم بن حنا في سنة أربع وخمسين وستمائة وكان إذ ذاك زقاق القناديل أعمر أخطاط مصر وإنما قيل له زقاق القناديل من أجل أنه كان سكن الأشراف وكانت أبواب الدور يعلق على كلّ باب منها قنديل. قال القضاعيّ: ويُقال أنه كان به مائة قنديل توقد كل ليلة على أبوابالأكابر. وابن حنا هذا هو عليّ بن محمد بن سليم بفتح السين المهملة وكسر اللام ثم ياءآخر الحروف بعدها ميم ابن حنا بحاء مهملة مكسورة ثم نون مشدّدة مفتوحة بعدها ألف الوزير الصاحب بهاء الدين ولد بمصر في سنة ثلاث وستمائة وتنقلت به الأحوال في كتابة الدواوين إلى أن ولي المناصب الجليلة واشتهرت كفايته وعُرفت في الدولة نهضته ودرايته فاستوزره السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ في ثامن شهر ربيع الأوّل سنة تسع وخمسين وستمائة بعد القبض على الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير وفوّض إليه تدبير المملكة وأمور الدولة كلها فنزل من قلعة الجبل بخلع الوزارة ومعه الأمير سيف الدين بلبان الروميّ الدوادار وجميع الأعيان والأكابر إلى داره واستبدّ بجميع التصرفات وأظهر عن حزم وعزم وجودة رأي وقام بأعباء الدولة من ولايات العمال وعزلهم من غير مشاورة السلطان ولا اعتراض أحد عليه فصار مرجع جميع الأمور إليه ومصدرها عنه ومنشأ ولايات الخطط والأعمال من قلمه وزوالها عن أربابها لا يصدر إلا من قبله وما زال على ذلك طول الأيام الظاهرية فلما قام الملك السعيد بركة قان بأمر المملكة بعد موت أبيه الملك الظاهر أقرّه على ما كان عليه في حياة والده فدبر الأمور وساس الأحوال وما تعرّض له أحد بعداوة ولا سوء مع كثرة من كان يناويه من الأمراء وغيرهم إلاّ وصده الله عنه ولم يجد ما يتعلق به عليه ولا ما يبلغ به مقصوده منه وكان عطاؤه واسعًا وصلاته وكلفه للأمراء والأعيان ومن يلوذ به ويتعلق بخدمته تخرج عن الحدّ في الكثرة وتتجاوز القدر في السعة مع حسن ظنّ بالفقراء وصدق العقيدة في أهل الخير والصلاح والقيام بمعونتهم وتفقد أحوالهم وقضاء أشغالهم والمبادرة إلى امتثال أوامرهم والعفة عن الأموال حتى أنه لم يقبل من أحد في وزارته هدية إلاأن تكون هدية فقير أو شيخ معتقد يتبرّك بما يصل من أثره وكثرة الصدقات في السرّوالعلانية وكان يستعين على ما التزمه من المبرّات ولزمه من الكلف بالمتاجر وقد مدحه عدّة من الناس فقبل مديحهم وأجزل جوائزهم وما أحسن قول الرشيد الفارقيّ فيه: وقائل قالَ لي نبهِ لنا عُمَرًا فقلتُ إن عليًا قدتنبَهَ لي. وقول سعد الدين بن مروان الفارقيّ في كتاب الدرج المختص به أيضًا: يمم عليًا فهو بحرُ الندى ونادِهِ في المضلعِ المعضِل. فرفدُهُ بحرعلى مجدب ووفدُهُ مفض إلى مفصَل. يسرع إن سيل نداهُ وهل أسرَعُ من سيل أتى من علي. إلاّ أنه أحدث في وزارته حوادث عظيمة وقاس أراضي الأملاك بمصر والقاهرة وأخذ عليها مالًا وصادر أرباب الأموال وعاقبهم حتى مات كثير منهم تحت العقوبة واستخرج حوالي الذمّة مضاعفة ورزىء بفقد ولديه الصاحب فخر الدين محمد والصاحب زين الدين فعوّضه اللّه عنهما بأولادهما فما منهم إلا نجيب صدر رئيس فاضل مذكور ومامات حتى صار جد جد وهوعلى المكانة وافرالحرمة في ليلة الجمعة مستهلّ ذي الحجة سنة سبع وسبعين وستمائة ودفن بتربته من قرافة مصر ووزر من بعده الصاحب برهان الدين الخضر بن حسن بن عليّ السنجاريّ وكان بينه وبين ابن حنا عداوة ظاهرة وباطنة وحقود بارزة وكامنة فأوقع الحوطة علىالصاحب تاج الدين محمد بن حنا بدمشق وكان مع الملك السعيد بها وأخذ خطه بمائة ألف دينار وجهزه على البريد إلى مصر ليستخرج منه ومن أخيه زين الدين أحمد وابن عمه عز الدين تكملة ثلثمائة ألف دينار وأحيط بأسبابه ومن يلوذ به من أصحابه ومعارفه وغلمانه وطولبوا بالمال. وأوّل من درّس بهذه المدرسة الصاحب فخر الدين محمد ابن بانيها الوزير الصاحب بهاء الدين إلى أن مات يوم الاثنين حادي عشري شعبان سنة ثمان وستين وستمائة فوليها من بعده ابنه محيي الدين أحمد بن محمد إلى أن توفي يوم الأحد ثامن شعبان سنة اثنتين وسبعين وستمائة فدرّس فيها بعده الصاحب زين الدين أحمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين إلى أن مات في يوم الأربعاء سابع صفر سنة أربع وسبعمائة فدرس بها ولده الصاحب شرف الدين وتوارثها أبناء الصاحب يلون نظرها وتدريسها إلى أن كان آخرهم صاحبنا الرئيس شمس الدين محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن الصاحب بهاء الدين وليها بعد أبيه عز الدين ووليها عز الدين بعد بدر الدين أحمدبن محمدبن محمدبن الصاحب بهاء الدين فلما مات صاحبنا شمس الدين محمد بن الصاحب لليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وثمانمائة وضع بعض نواب القضاة يده على ما بقي لها من وقف وأقامت هذه المدرسة مدّة أعوام معطلة من ذكر اللّه وإقام الصلاة لا يأويها أحد لخراب ما حولها وبها شخص يبيت بها كي لا يُسرق ما بها من أبواس ورخام وكان لها خزانة كتب جليلة فنقلها شمس الدين محمد بن الصاحب وصارت تحت يده إلى أن مات فتفرّقت في أيدي الناس وكان قد عزم على نقلها إلى شاطيء النيل بمصر فمات قبل ذلك. ولما كان في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة أخذ الملك الناصرفرج بن برقوق عمد الرخام التي كانت بهذه المدرسة وكانت كثيرة العدد جليلة القدر وعمل بدلها دعائم تحمل السقوف إلى أن كانت أيام الملك المؤيد شيخ وولي الأمير تاج الدين الشوبكيّ الدمشقي ولاية القاهرة ومصر وحسبة البلدين وشدّ العمائر السلطانية فهدم هذه المدرسة في أخريات سنة سبع عشرة وأوائل سنة ثماني عشرة وثمانمائة وكانت من أجلّ مدارس الدنيا وأعظم مدرسة بمصر يتنافس الناس من طلبة العلم في النزول بها ويتشاحنون في سكنى بيوتها حتى يصير البيت الواحد من بيوتها يسكن فيه الإثنان من طلبة العلم والثلاثة ثم تلاشى أمرها حتى هُدمت وسيجهل عن قريب موضعها ولله عاقبة الأمور.
|